تحديات السلوك العام في ظل التطور والنظام- قراءة في المشهد الوطني

المؤلف: فراس طرابلسي08.27.2025
تحديات السلوك العام في ظل التطور والنظام- قراءة في المشهد الوطني
في هذا الوطن المعطاء، حيث تزدهر المشاريع الضخمة وتترسخ دعائم الأمن والازدهار، لا يكتفي المرء بالإشادة بمستوى الاستجابة الحكومية فحسب، بل يجب عليه أيضًا أن يتأمل بعمق في الأسباب الكامنة وراء تكرار بعض السلوكيات غير المرغوبة. فالمشهد العام يظهر لنا تناقضًا جليًا: مؤسسات أمنية وتنظيمية تتمتع بقدر عالٍ من الكفاءة والحزم، بينما نشاهد في المقابل تصرفات فردية وجماعية تبعث على القلق، خاصة بين الشباب، وتستدعي منا وقفة جادة وتحليلًا دقيقًا يتجاوز مجرد رد الفعل الظاهري. • المشهد الأول يتجلى في قلب السوق المالية، حيث أعلنت هيئة السوق المالية عن إدانة عشرة مستثمرين بتهمة مخالفة الأنظمة والقوانين، وفرضت عليهم غرامات مالية تجاوزت 860 ألف ريال، بالإضافة إلى إلزام مستثمرين آخرين بإعادة أكثر من ستة وتسعين مليون ريال نتيجة مكاسب غير مشروعة. هذه المخالفات لا تعتبر مجرد قضايا رقابية، بل تمس بشكل مباشر ثقة المستثمرين وتقوض مصداقية البيئة الاستثمارية. فعندما يدرك المواطن العادي أن هناك تلاعبًا خفيًا قد يؤثر بشكل مباشر على قراراته في البيع والشراء، يشعر بأن قواعد المنافسة الشريفة قد اختلت. ومع ذلك، فإن ما يبعث على الاطمئنان هو سرعة وشفافية تعامل الهيئة مع هذه المخالفات، مما يؤكد أن السوق السعودي يخضع للمساءلة الحقيقية، وأن التلاعب بالأرقام لا يقل خطورة عن أي اعتداء آخر على الأنظمة والقوانين. • المشهد الثاني يثير الصدمة على المستوى الأخلاقي، حيث انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر فيه مجموعة من الشبان يتحرشون بفتاتين في مكان عام، دون أي سبب أو مبرر سوى اندفاع جماعي يعكس تدهورًا في القيم الأخلاقية. الخطر هنا لا يكمن فقط في الفعل ذاته، بل في طبيعته العشوائية وفي حقيقة أن المعتدين لم يكونوا مجموعة منظمة، بل مجموعة من الغرباء الذين اتحدوا فجأة في هذا السلوك المشين. هذا يعكس ضعفًا في البناء القيمي لدى هذه الفئة، ويطرح تساؤلات جوهرية حول دور الأسرة والمجتمع والمؤسسات التعليمية والمنصات الرقمية في توجيه سلوك الشباب. ولكن، وكما هو معهود في هذا البلد، لم تتأخر السلطات المختصة، حيث أعلنت شرطة الرياض عن القبض على جميع المتورطين في غضون ساعات قليلة وإحالتهم إلى النيابة العامة، في رسالة واضحة تؤكد أن كرامة المرأة في المملكة مصانة، وأن حماية جميع المواطنين والمقيمين والزوار هي مسؤولية وطنية لا تقبل أي تهاون. • أما المشهد الثالث، فقد جاء من الشارع، حيث ظهرت مجموعة من الفتية الملثمين وهم يعتدون على سيارات المارة بإلقاء الحجارة والأجسام الصلبة عليها، معرضين حياة الآخرين للخطر دون سبب. قد يبدو هذا المشهد في ظاهره مجرد عبث صبياني، ولكنه في جوهره يعكس نمطًا جديدًا من الاعتداء المجاني على الآخرين، وكأن التخريب أصبح نوعًا من الاستعراض، وكأن السلامة العامة لم تعد أولوية في وعي هؤلاء الشباب. هذه ليست مجرد حادثة فردية، بل هي مؤشر على وجود فراغ تربوي، وغياب مفهوم الانضباط الذاتي لدى بعض الفئات. وهنا أيضًا، كان تدخل وزارة الداخلية سريعًا وفوريًا، حيث تم القبض على المتورطين وإحالتهم إلى الجهات المختصة، في تأكيد قاطع على أن هيبة الدولة لم ولن تغيب، وأن أي اعتداء مهما كان شكله لن يمر دون عقاب. إن هذه المشاهد الثلاثة، على الرغم من اختلاف سياقاتها، تتفق في دلالتها: هناك يقظة مؤسسية عالية، ولكن في المقابل، هناك مظاهر سلوكية متكررة تستدعي معالجة أعمق من مجرد التدخل الأمني. فعندما تتكرر الأخطاء، على الرغم من وضوح العقوبات، فإن السؤال لم يعد متعلقًا بتطبيق النظام فحسب، بل بفاعلية التنشئة والتربية، ومتانة القيم الأخلاقية والإنسانية، وحضور القدوة الحسنة، وانسجام الخطاب التربوي. نحن بحاجة ماسة إلى مشروع وطني شامل يعيد الاعتبار إلى التربية السلوكية، ويعزز مفهوم المسؤولية الفردية، ويعيد تعريف العلاقة بين الحرية والمسؤولية، وبين الحقوق والواجبات. هذا الوطن العزيز، الذي يعيش فيه المواطن بأمان وسلام، ويستيقظ على قرارات حازمة تهدف إلى تنظيم الحياة، يستحق منا أن نرتقي بأخلاقنا وقيمنا كما ارتقينا بمبانينا ومنشآتنا، وأن تكون منظومتنا السلوكية على قدر طموحاتنا التنموية. فالأمن الحقيقي لا يصنعه النظام والقانون وحدهما، بل يصنعه الضمير الحي والوازع الأخلاقي قبل كل شيء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة